فصل: تفسير الآية رقم (12):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (7):

{وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (7)}
قوله تعالى: {وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا} يعني القرآن. {وَلَّى} أي أعرض. {مُسْتَكْبِراً} نصب على الحال. {كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً} ثقلا وصمما. وقد تقدم. {فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ} تقدم أيضا.

.تفسير الآيات (8- 9):

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)}
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ} لما ذكر عذاب الكفار ذكر نعيم المؤمنين. {خالِدِينَ فِيها} أي دائمين. {وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا} أي وعدهم الله هذا وعدا حقا لا خلف فيه. {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} تقدم أيضا.

.تفسير الآيات (10- 11):

{خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (11)}
قوله تعالى: {خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها} تكون {تَرَوْنَها} في موضع خفض على النعت ل {عَمَدٍ} فيمكن أن يكون ثم عمد ولكن لا ترى. ويجوز أن تكون في موضع نصب على الحال من {السَّماواتِ} ولا عمد ثم البتة. النحاس: وسمعت علي بن سليمان يقول: الأولى أن يكون مستأنفا، ولا عمد ثم، قاله مكي. ويكون {بِغَيْرِ عَمَدٍ} التمام. وقد مضى في {الرعد} الكلام في هذه الآية. {وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ} أي جبالا ثوابت. {أَنْ تَمِيدَ} في موضع نصب، أي كراهية أن تميد. والكوفيون يقدرونه بمعنى لئلا تميد. {وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} عن ابن عباس: من كل لون حسن. وتأوله الشعبي على الناس، لأنهم مخلوقون من الأرض، قال: من كان منهم يصير إلى الجنة فهو الكريم، ومن كان منهم يصير إلى النار فهو اللئيم. وقد تأول غيره أن النطفة مخلوقة من تراب، وظاهر القرآن يدل على ذلك. قوله تعالى: {هذا خَلْقُ اللَّهِ} مبتدأ وخبر. والخلق بمعنى المخلوق، أي هذا الذي ذكرته مما تعاينون {خَلْقُ اللَّهِ} أي مخلوق الله، أي خلقها من غير شريك. {فَأَرُونِي} معاشر المشركين {ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} يعني الأصنام. {بَلِ الظَّالِمُونَ} أي المشركون {فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي خسران ظاهر. و{ما} استفهام في موضع رفع بالابتداء وخبره {ذا} وذا بمعنى الذي. و{خَلْقُ} واقع على هاء محذوفة، تقديره فأروني أي شيء خلق الذين من دونه، والجملة في موضع نصب بـ {أروني} وتضمر الهاء مع {خَلْقُ}
تعود على الذين، أي فأروني الأشياء التي خلقها الذين من دونه. وعلى هذا القول تقول: ماذا تعلمت، أنحو أم شعر. ويجوز أن تكون {ما} في موضع نصب بـ {أروني} و{ذا} زائد، وعلى هذا القول يقول: ماذا تعلمت، أنحوا أم شعرا.

.تفسير الآية رقم (12):

{وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12)}
قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ} مفعولان. ولم ينصرف {لُقْمانَ} لان في آخره ألفا ونونا زائدتين، فأشبه فعلان الذي أنثاه فعلى فلم ينصرف في المعرفة لان ذلك ثقل ثان، وانصرف في النكرة لان أحد الثقلين قد زال، قاله النحاس. وهو لقمان بن باعوراء ابن ناحور بن تارح، وهو آزر أبو إبراهيم، كذا نسبه محمد بن إسحاق.
وقيل: هو لقمان ابن عنقاء بن سرون وكان نوبيا من أهل أيلة، ذكره السهيلي. قال وهب: كان ابن أخت أيوب.
وقال مقاتل: ذكر أنه كان ابن خالة أيوب. الزمخشري: وهو لقمان بن باعوراء ابن أخت أيوب أو ابن خالته، وقيل كان من أولاد آزر، عاش ألف سنة وأدركه داود عليه الصلاة والسلام واخذ عنه العلم، وكان يفتي قبل مبعث داود، فلما بعث قطع الفتوى فقيل له، فقال: ألا أكتفى إذ كفيت.
وقال الواقدي: كان قاضيا في بني إسرائيل.
وقال سعيد ابن المسيب: كان لقمان أسود من سودان مصر ذا مشافر، أعطاه الله تعالى الحكمة ومنعه النبوة، وعلى هذا جمهور أهل التأويل إنه كان وليا ولم يكن نبيا.
وقال بنبوته عكرمة والشعبي، وعلى هذا تكون الحكمة النبوة. والصواب أنه كان رجلا حكيما بحكمة الله تعالى- وهي الصواب في المعتقدات والفقه في الدين والعقل- قاضيا في بني إسرائيل، أسود مشقق الرجلين ذا مشافر، أي عظيم الشفتين، قاله ابن عباس وغيره. وروي من حديث ابن عمر قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «لم يكن لقمان نبيا ولكن كان عبدا كثير التفكر حسن اليقين، أحب الله تعالى فأحبه، فمن عليه بالحكمة، وخيره في أن يجعله خليفة يحكم بالحق، فقال: رب، إن خيرتني قبلت العافية وتركت البلاء، وإن عزمت علي فسمعا وطاعة فإنك ستعصمني»، ذكره ابن عطية. وزاد الثعلبي: «فقالت له الملائكة بصوت لا يراهم: لم يا لقمان؟ قال: لان الحاكم بأشد المنازل وأكدرها، يغشاه المظلوم من كل مكان، إن يعن فبالحرى أن ينجو، وإن أخطأ أخطأ طريق الجنة. ومن يكن في الدنيا ذليلا فذلك خير من أن يكون فيها شريفا. ومن يختر الدنيا على الآخرة نفته الدنيا ولا يصيب الآخرة. فعجبت الملائكة من حسن منطقه، فنام نومة فأعطي الحكمة فانتبه يتكلم بها. ثم نودي داود بعده فقبلها- يعني الخلافة- ولم يشترط ما اشترطه لقمان، فهوى في الخطيئة غير مرة، كل ذلك يعفو الله عنه. وكان لقمان يوازره بحكمته، فقال له داود: طوبى لك يا لقمان! أعطيت الحكمة وصرف عنك البلاء، وأعطى داود الخلافة وابتلي بالبلاء والفتنة».
وقال قتادة: خير الله تعالى لقمان بين النبوة والحكمة، فاختار الحكمة على النبوة، فأتاه جبريل عليه السلام وهو نائم فذر عليه الحكمة فأصبح وهو ينطق بها، فقيل له: كيف اخترت الحكمة على النبوة وقد خيرك ربك؟ فقال: إنه لو أرسل إلي بالنبوة عزمة لرجوت فيها العون منه، ولكنه خيرني فخفت أن أضعف عن النبوة، فكانت الحكمة أحب إلي. واختلف في صنعته، فقيل: كان خياطا، قاله سعيد بن المسيب، وقال لرجل أسود: لا تحزن من أنك أسود، فإنه كان من خير الناس ثلاثة من السودان: بلال ومهجع مولى عمر ولقمان.
وقيل: كان يحتطب كل يوم لمولاه حزمة حطب.
وقال لرجل ينظر إليه: إن كنت تراني غليظ الشفتين فإنه يخرج من بينهما كلام رقيق، وإن كنت تراني أسود فقلبي أبيض.
وقيل: كان راعيا، فرآه رجل كان يعرفه قبل ذلك فقال له: الست عبد بني فلان؟ قال بلى. قال: فما بلغ بك ما أرى؟ قال: قدر الله، وأدائي الأمانة، وصدق الحديث، وترك ما لا يعنيني، قاله عبد الرحمن بن زيد بن جابر.
وقال خالد الربعي: كان نجارا، فقال له سيده: اذبح لي شاة وائتني بأطيبها مضغتين، فأتاه باللسان والقلب، فقال له: ما كان فيها شيء أطيب من هذين؟ فسكت، ثم أمره بذبح شاة أخرى ثم قال له: ألق أخبثها مضغتين، فألقى اللسان والقلب، فقال له: أمرتك أن تأتيني بأطيب مضغتين فأتيتني باللسان والقلب، وأمرتك أن تلقي أخبثها فألقيت اللسان والقلب؟! فقال له: إنه ليس شيء أطيب منهما إذا طابا، ولا أخبث منهما إذا خبثا. قلت: هذا معناه مرفوع في غير ما حديث، من ذلك قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب». وجاء في اللسان آثار كثيرة صحيحة وشهيرة، منها قوله عليه السلام: «من وقاه الله شر اثنتين ولج الجنة: ما بين لحييه ورجليه...» الحديث. وحكم لقمان كثيرة مأثورة هذا منها. وقيل له: أي الناس شر؟ قال: الذي لا يبالي أن رآه الناس مسيئا. قلت: وهذا أيضا مرفوع معنى، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كل أمتي معافى إلا المجاهرون وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملا ثم يصبح وقد ستره الله فيقول يا فلان عملت البارحة كذا وكذا وقد بات يستره ربه ويصبح يكشف ستر الله عنه». رواه أبو هريرة خرجه البخاري.
وقال وهب بن منبه: قرأت من حكمة لقمان أرجح من عشرة آلاف باب. وروي أنه دخل على داود عليه السلام وهو يسرد الدروع، وقد لين الله له الحديد كالطين فأراد أن يسأله، فأدركته الحكمة فسكت، فلما أتمها لبسها وقال: نعم لبوس الحرب أنت. فقال: الصمت حكمة، وقليل فاعله. فقال له داود: بحق ما سميت حكيما. قوله تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ} فيه تقديران: أحدهما أن تكون {أَنِ} بمعنى أي مفسرة، أي قلنا له اشكر. والقول الآخر أنها في موضع نصب والفعل داخل في صلتها، كما حكى سيبويه: كتبت إليه أن قم، إلا أن هذا الوجه عنده بعيد.
وقال الزجاج: المعنى ولقد آتينا لقمان الحكمة لأن يشكر الله تعالى.
وقيل: أي بأن اشكر لله تعالى فشكر، فكان حكيما بشكره لنا. والشكر لله: طاعته فيما أمر به. وقد مضى القول في حقيقته لغة ومعنى في البقرة وغيرها. {وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} أي من يطع الله تعالى فإنما يعمل لنفسه، لان نفع الثواب عائد إليه. {وَمَنْ كَفَرَ} أي كفر النعم فلم يوحد الله {فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ} عن عبادة خلقه {حَمِيدٌ} عند الخلق، أي محمود.
وقال يحيى بن سلام: {غَنِيٌّ} عن خلقه {حَمِيدٌ} في فعله.

.تفسير الآية رقم (13):

{وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)}
قوله تعالى: {وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ} قال السهيلي: اسم ابنه ثاران، في قول الطبري والقتبي.
وقال الكلبي: مشكم. وقيل أنعم، حكاه النقاش. وذكر القشيري أن ابنه وامرأته كانا كافرين فما زال يعظهما حتى أسلما. قلت: ودل على هذا قوله: {لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} وفي صحيح مسلم وغيره عن عبد الله قال: لما نزلت {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] شق ذلك على أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقالوا: أينا لا يظلم نفسه؟ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ليس هو كما تظنون إنما هو كما قال لقمان لابنه: {يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}. واختلف في قوله: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} فقيل: إنه من كلام لقمان.
وقيل: هو خبر من الله تعالى منقطعا من كلام لقمان متصلا به في تأكيد المعنى، ويؤيد هذا الحديث المأثور أنه لما نزلت: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] أشفق أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقالوا: أينا لم يظلم، فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} فسكن إشفاقهم، وإنما يسكن إشفاقهم بأن يكون خبرا من الله تعالى، وقد يسكن الإشفاق بأن يذكر الله ذلك عن عبد قد وصفه بالحكمة والسداد. و{إِذْ} في موضع نصب بمعنى اذكر.
وقال الزجاج في كتابه في القرآن: إن {إِذْ} في موضع نصب ب {آتَيْنا} والمعنى: ولقد آتينا لقمان الحكمة إذ قال. النحاس: وأحسبه غلطا، لان في الكلام واوا تمنع من ذلك. وقال: {يا بُنَيَّ} بكسر الياء، لأنها دالة على الياء المحذوفة، ومن فتحها فلخفة الفتحة عنده، وقد مضى في {هود} القول في هذا. وقوله: {يا بُنَيَّ} ليس هو على حقيقة التصغير وإن كان على لفظه، وإنما هو على وجه الترقيق، كما يقال للرجل: يا أخي، وللصبي هو كويس.

.تفسير الآيات (14- 15):

{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)}
فيه ثماني مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ} هاتان الآيتان اعتراض بين أثناء وصية لقمان.
وقيل: إن هذا مما أوصى به لقمان ابنه، أخبر الله به عنه، أي قال لقمان لابنه: لا تشرك بالله ولا تطع في الشرك والديك، فإن الله وصى بهما في طاعتهما مما لا يكون شركا ومعصية لله تعالى.
وقيل: أي وإذ قال لقمان لابنه، فقلنا للقمان فيما آتيناه من الحكمة ووصينا الإنسان بوالديه، أي قلنا له اشكر لله، وقلنا له ووصينا الإنسان.
وقيل: وإذ قال لقمان لابنه، لا تشرك، ونحن وصينا الإنسان بوالديه حسنا، وأمرنا الناس بهذا، وأمر لقمان به ابنه، ذكر هذه الأقوال القشيري. والصحيح أن هاتين الآيتين نزلتا في شأن سعد ابن أبي وقاص، كما تقدم في {العنكبوت} وعليه جماعة المفسرين.
وجملة هذا الباب أن طاعة الأبوين لا تراعى في ركوب كبيرة ولا في ترك فريضة على الأعيان، وتلزم طاعتهما في المباحات، ويستحسن في ترك الطاعات الندب، ومنه أمر الجهاد الكفاية، والإجابة للأم في الصلاة مع إمكان الإعادة، على أن هذا أقوى من الندب، لكن يعلل بخوف هلكة عليها، ونحوه مما يبيح قطع الصلاة فلا يكون أقوى من الندب. وخالف الحسن في هذا التفصيل فقال: إن منعته أمه من شهود العشاء شفقة فلا يطعها.
الثانية: لما خص تعالى الام بدرجة ذكر الحمل وبدرجة ذكر الرضاع حصل لها بذلك ثلاث مراتب، وللأب واحدة، وأشبه ذلك قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين قال له رجل من أبر؟ قال: «أمك قال ثم من؟ قال: أمك قال ثم من؟ قال: أمك قال ثم من؟ قال: أبوك» فجعل له الربع من المبرة كما في هذه الآية، وقد مضى هذا كله في {سبحان}.
الثالثة: قوله تعالى: {وَهْناً عَلى وَهْنٍ} أي حملته في بطنها وهي تزداد كل يوم ضعفا على ضعف.
وقيل: المرأة ضعيفة الخلقة ثم يضعفها الحمل. وقرأ عيسى الثقفي: {وَهْناً عَلى وَهْنٍ} بفتح الهاء فيهما، ورويت عن أبي عمرو، وهما بمعنى واحد. قال قعنب ابن أم صاحب:
هل للعواذل من ناه فيزجرها ** إن العواذل فيها الأين والوهن

يقال: وهن يهن، ووهن يوهن ووهن، يهن، مثل ورم يرم. وانتصب {وَهْناً} على المصدر، ذكره القشيري. النحاس: على المفعول الثاني بإسقاط حرف الجر، أي حملته بضعف على ضعف. وقرأ الجمهور: {وَفِصالُهُ} وقرأ الحسن ويعقوب: {وَفِصالُهُ} وهما لغتان، أي وفصاله في انقضاء عامين، والمقصود من الفصال الفطام، فعبر بغايته ونهايته. ويقال: انفصل عن كذا أي تميز، وبه سمي الفصيل.
الرابعة: الناس مجمعون على العامين في مدة الرضاع في باب الأحكام والنفقات، وأما في تحريم اللبن فحددت فرقة بالعام لا زيادة ولا نقص. وقالت فرقة: العامان وما اتصل بهما من الشهر ونحوه إذا كان متصل الرضاع. وقالت فرقة: إن فطم الصبي قبل العامين وترك اللبن فإن ما شرب بعد ذلك في الحو لين لا يحرم، وقد مضى هذا في البقرة مستوفى.
الخامسة: قوله تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي} {أَنِ} في موضع نصب في قول الزجاج، وأن المعنى: ووصينا الإنسان بوالديه أن اشكر لي. النحاس: وأجود منه أن تكون {أَنِ} مفسرة، والمعنى: قلنا له أن اشكر لي ولوالديك. قيل: الشكر لله على نعمة الايمان، وللوالدين على نعمة التربية.
وقال سفيان بن عيينة: من صلى الصلوات الخمس فقد شكر الله تعالى، ومن دعا لوالديه في أدبار الصلوات فقد شكرهما.
السادسة: قوله تعالى: {وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} قد بينا أن هذه الآية والتي قبلها نزلتا في شأن سعد بن أبي وقاص لما أسلم، وأن أمه وهي حمنة بنت أبي سفيان بن أمية حلفت ألا تأكل، كما تقدم في الآية قبلها.
السابعة: قوله تعالى: {وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً} نعت لمصدر محذوف، أي مصاحبا معروفا، يقال صاحبته مصاحبة ومصاحبا. و{مَعْرُوفاً} أي ما يحسن. والآية دليل على صلة الأبوين الكافرين بما أمكن من المال إن كانا فقيرين، وإلانة القول والدعاء إلى الإسلام برفق. وقد قالت أسماء بنت أبي بكر الصديق للنبي عليه الصلاة والسلام وقد قدمت عليه خالتها وقيل أمها من الرضاعة فقالت: «يا رسول الله، إن أمي قدمت علي وهي راغبة أفأصلها؟ قال: نعم». وراغبة قيل معناه: عن الإسلام. قال ابن عطية: والظاهر عندي أنها راغبة في الصلة، وما كانت لتقدم على أسماء لولا حاجتها. ووالدة أسماء هي قتيلة بنت عبد العزى بن عبد أسد. وام عائشة وعبد الرحمن هي أم رومان قديمة الإسلام.
الثامنة: قوله تعالى: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ} وصية لجميع العالم، كأن المأمور الإنسان. و{أَنابَ} معناه مال ورجع إلى الشيء، وهذه سبيل الأنبياء والصالحين.
وحكى النقاش أن المأمور سعد، والذي أناب أبو بكر، وقال: إن أبا بكر لما أسلم أتاه سعد وعبد الرحمن بن عوف وعثمان وطلحة وسعيد والزبير فقالوا: آمنت! قال نعم، فنزلت فيه: {أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر: 9] فلما سمعها الستة آمنوا، فأنزل الله تعالى فيهم: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى} إلى قوله: {أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ} [الزمر: 18- 17]. قيل: الذي أناب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقال ابن عباس: ولما أسلم سعد أسلم معه أخواه عامر وعويمر، فلم يبق منهم مشرك إلا عتبة. ثم توعد عز وجل ببعث من في القبور والرجوع إليه للجزاء والتوقيف على صغير الأعمال وكبيرها.